فصل: تفسير الآيات (23- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (23- 30):

{وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
فى الآية السابقة على هذه الآية جاء قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} جاء ناهيا ومحذّرا ومتوعدا من يشرك مع اللّه إلها آخر.
وفى هذه الآية جاءت دعوة اللّه الناس جميعا إلى الإيمان باللّه. فهذا ما قضى اللّه سبحانه وتعالى به في عباده، حين أخذ عليهم العهد، وهم في ظهور آبائهم.
كما يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [172: الأعراف].. فالناس جميعا- بحكم هذا العهد- مؤمنون باللّه، بفطرتهم، يولد المولود منهم، وهو على هذه الفطرة، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصّرانه، ويمجّسانه».
ومن هنا يبدو إيمان الناس باللّه وكأنه قضاء قضى اللّه به عليهم، وألزمهم إياه.. فهم مؤمنون باللّه، بحكم فطرتهم المودعة فيهم، ومطلوب منهم أن يستقيموا على هذه الفطرة، وألّا يخرجوا عنها.. فالإيمان باللّه غريزة مركوزة في كيان الإنسان، أشبه بتلك الغرائز التي تتحكم في سلوك الحيوان.. ولكن الإنسان حين يعقل ويدرك، يصبح كائنا ذا إرادة.. وهو بهذه الإرادة قد يلتقى مع الفطرة، وقد يصطدم بها.. ومن هنا يكون الإيمان والكفر، والهدى والضلال.
وقوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} معطوف على ما قبله، ويصحّ عطف النهى على الأمر، والأمر على النهى، لأنهما طلبيّان.. وفى النهى معنى الأمر.
فقوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} يحمل معنى الأمر، وهو اعبدوا اللّه.. فحسن عطف الأمر عليه: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وقدّم معمول المصدر، على المصدر، للاهتمام به، لأنه مطلوب الإحسان وغايته.. وأصل النظم {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وإحسانا بالوالدين}.
ونصب إحسانا بفعل محذوف، تقديره {أحسنوا}.
وفى عطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين، على النهى عن عبادة غير اللّه، مزيد اهتمام بالوالدين، واحتفاء بقدرهما، وتنويه بفضلهما.. وذلك لأنهما هما السبب المباشر في إيجاد الإنسان، حيث ينظر الناظر إلى مواليد الحياة، فيجد أنها ترجع إلى الذكر والأنثى، أو الأب والأم، وإن كان الخلق كله للّه سبحانه وتعالى.
ثم لا يقف أمر الوالدين عند حدّ ولادة المولود، بل إنهما يقومان على أمره، ويسهران على كفالته، وتنشئته، حتى يجاوز مرحلة الطفولة والصبا، وحتى في مرحلة الشباب، لا تنقطع رعاية الأبوين، ولا عنايتهما بأولادهما.
ومن هنا كان للأبوين هذا الحق في عنق الأبناء، وهو حق توجبه المروءة، ويقتضيه العدل، قبل أن يوجبه الدين، وتقتضيه الشريعة.
وقد دعت الشريعة إلى أداء هذا الحق، في صورة عامة مجملة، وهو الإحسان إليهما، الإحسان المطلق، الذي يشمل كل خير، ويضمّ كل إحسان.. سواء بالقول، أم بالعمل.. فكل ما هو داخل في باب الإحسان ينبغى على الأبناء أن يقدموه إلى آبائهم.. {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وفى قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما}.
إشارة إلى مقطع من مقاطع الحياة، ومرحلة من مراحلها، يبلغها الأبوان، فيكونان فيها في حال من الضعف والوهن، وذلك حين يتقدم بهما العمر.
وهنا قد يجد بعض الأبناء أن الفرصة ممكنة لهم في أن يتخفّفوا من حقوق الوالدين، أو أن يسيئوا الأدب معهما.
ولهذا جاء قول اللّه هنا منبّها إلى تلك المرحلة التي قد يبلغها الأبوان من العمر، وما ينبغى أن يكون عليه سلوك الأبناء فيها معهما: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
و{إمّا} أصلها {إن} الشرطية، {وما} الزائدة للتوكيد.
و{أفّ} صوت، يدل على الضجر، والضيق من قائله إلى المقول له.
ولا تنهرهما: النّهر: الزجر، والتعنيف في الخطاب.
فالآية الكريمة، ترسم أدب الحديث مع الوالدين في حال بلوغهما الكبر.
فالكلمة النابية تجرح مشاعرهما، وتكدر خاطرهما، والكلمة الطيبة تنعش روحيهما وتشرح صدريهما.
إن الأبوين في حال الكبر لا يحتاجان إلى كثير من الطعام أو الكساء، أو غيرهما من متع الحياة، وإنما الذي يحتاجان إليه في تلك الحال، هو الإحسان إليهما بالكلمة الطيبة، إذ كان أكثر ما يملكانه ويتعاملان به في هذه الحال هو الكلام، أخذا، وعطاء.
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
وخفض الجناح، كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث.
والإنسان فيه جانبان من كل شيء.. جانب الخير، وجانب الشر.. جانب القوة، وجانب الضعف، جانب الشدة، وجانب اللين، وهكذا.
وبين جانبى الإنسان إرادة، هي التي تنزع به إلى أي الجانبين.. فهو في هذا أشبه بالطائر، حين يريد الاتجاه إلى أية جهة، يخفض جناحه لها، على حين يفرد الجناح الآخر.
فكأنّ الإنسان حين دعى إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه.
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
هو تعقيب على ما تضمنته الآيات السابقة من النهى عن الشرك باللّه، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.. وهذا التعقيب يقرر أنّ أساس الأعمال كلها، هي القلوب، وما تنطوى عليه، من صلاح.. فإذا كان قلب الإنسان سليما، ونيّته معقودة على الإيمان باللّه، والإحسان إلى الوالدين، ثم كان منه زلة أو عثرة، فذلك مما لا يفسد على المؤمن إيمانه، ولا يضيّع على المحسن إحسانه، إذا هو رجع إلى اللّه من قريب، وأصلح ما أفسد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
والأوابون: جمع أواب، وهو كثير الأوب، أي التوبة والرجوع إلى اللّه.. وهذا يعنى أن الإنسان في معرض الخطأ والزلل.. وأن الذي يصلح من خطئه، ويصحح من عوجه، هو رجوعه إلى للّه، وطلب الصفح والمغفرة منه.
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
هو دعوة إلى الإحسان إلى جماعات لهم حقوق على الإنسان، بعد حقّ الوالدين، وهؤلاء هم:
ذوو القربى: أي الأقارب.. غير الأبوين.. كالإخوة، والأخوات، والأعمام والعمّات، وغيرهم ممن تربطهم بالإنسان رابطة القرابة والنسب.
والمساكين: وهم وإن لم يكونوا ذوى قرابة قريبة من الإنسان، فإنهم ذوو قرابة له في الإنسانية، وهم بعض المجتمع الذي هو منه.
وأبناء السبيل: وهم الذين يقطعهم السفر عن أهلهم، ومالهم.. فهم في عزلة ووحشة، وهم لذلك، في حاجة إلى من يؤنسهم ويذهب بوحشتهم.
وفى قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إشارة إلى أن ما يبذله الإنسان لهؤلاء الجماعات هو حقّ لهم عنده! فإذا أداه لهم، فإنما يؤدى دينا عليه.. ثم هو مع أداء هذا الدين مثاب عند اللّه، يضاعف له الأجر، ويجزل له المثوبة.
وقد أطلق الحق، فلم يحدّد، ولم يبيّن، ليشمل كل ما هو مطلوب، حسب الحال الداعية له.
وفى قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ما يشير إلى أمرين:
أولهما: الإغراء بالبذل والإنفاق.. وهذا على خلاف منطوق النظم {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
فإن النهى عن التبذير هنا، يشير إلى أن الدعوة إلى الإنفاق قد وجدت أو من شأنها أن تجد قلوبا رحيمة، وأيديا سخيّة، تنفق وتنفق، حتى تجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف، والتبذير.. فجاء قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ليمسك المسرفين في البذل والعطاء على طريق الاعتدال.!
وهذا الإغراء إنما هو لما يغلب على النفوس من شحّ وبخل.
وثانيهما: النهى عن التبذير حقيقة.. وذلك أن بعضا من الناس، قد يشتد بهم الحرص على مرضاة اللّه، والمبالغة في تنفيذ أمره، فيجاوزون حدّ الاعتدال، ويجورون على أنفسهم، سواء في العبادة، أم في غير العبادة من القربات والطاعات.. فإلى هؤلاء يكون النهى عن التبذير طلبا موجّها إليهم.
حتى يلتزموا الطريق الوسط، كما يقول سبحانه، في مدح المنفقين: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} [67: الفرقان].
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}.
هو تنفير من التبذير، والإسراف.. في أي وجه من الوجوه، حتى في مجال الخير والإحسان.. وكفى بالتبذير نكرا أن يكون وجهه دائما مصروفا في وجوه الشرّ، وقلّ أن يظهر له وجه في باب الإحسان.. ومن هنا كان مكروها على أي حال، إذ كان الغالب عليه هذا المتّجه المنكر.
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً}.
الضمير في {عنهم} يعود إلى المذكورين في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}.
والإعراض عنهم، هو الإمساك عن إعطاء الحق الذي هو لهم.
والرحمة المرجوّة من اللّه: هي الرزق المنتظر من فضله سبحانه وتعالى.
ومعنى الآية: إنك أيها الإنسان، إن أمسكت لضيق ذات يدك عن أن تؤدّى حق ذى القربى والمسكين وابن السبيل، منتظرا رزقا وسعة في الرزق من اللّه.. فلا يمنعنّك هذا من أن تحسن إليهم بالكلمة الطيبة {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً}.
أي طيبا ليّنا، فيه مسرّة لهم، وجبر لخاطرهم، وتيسير لمعسورهم، وفى الحديث: {الكلمة الطيبة صدقة}.
قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}.
هو تحذير من الشحّ والبخل، وقد صوّر بهذه الصورة التي يبدو فيها البخيل الشحيح، وقد غلّت يده إلى عنقه، فلا ينتفع بها في أي وجه من وجوه النفع، كما أنه لم يكن يوجهها بخير إلى أحد.. فهى يد معطلة، فكان شدّها إلى عنقه إعلانا عن صفتها التي أصبحت عليها.
وكما أن الشحّ مذموم، فكذلك السّرف مذموم.. كلاهما خروج عن حدّ الاعتدال، الذي هو ميزان العدل، والحكمة! والبخيل والمبذر، كلاهما ينتهى أمره إلى الندم والحسرة.. البخيل إذ لم ينتفع بما بين يديه من نعم اللّه.. والمبذر، إذ ضيّع هذه النعم، ولم يبق على شيء منها.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.
بسط الرزق: سعته وكثرته.
وقدر الرزق: قلّته بالنسبة للرزق الكثير المبسوط.
والمعنى: أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يرزق الناس، وهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويوسعه لبعضهم، على حين يعطى منه بقدر لآخرين.. وهذا وذاك إنما هو بحساب وتقدير، وعن علم وحكمة.. {إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.

.تفسير الآيات (31- 39):

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)}.
التفسير:
العرب. وقتل الأبناء ووأد البنات:
رسمت هذه الآيات منهجا متكاملا لبناء لإنسان على أسس سليمة، وقواعد ثابتة، من الحق، والخير، ولإحسان. ففى اجتناب منهيات هذه الآيات، وإتيان مأموراتها، ضمان لسلامة الإنسان، وسعادته في الدنيا والآخرة، ولهذا جاء وصف هذا المنهج بأنه مما أوحى به اللّه سبحانه وتعالى إلى نبيه، من معالم الحكمة، كما يقول سبحانه: {ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً} هو وصاة للآباء بما يجب عليهما نحو أولادهم، وذلك مقابل ما أوصى به سبحانه الأولاد، بما يجب عليهم نحو آبائهم.
والآباء- في الواقع- في غير حاجة إلى تنبيه إلى ما يجب عليهم نحو أولادهم، من صيانة ورعاية، فتلك فطرة، أقوى من أن تخضع لمؤثرات من الخارج، تضعفها، أو تنحرف بها عن غير طريقها المرسوم لها.. فحبّ الأبناء غريزة في كل كائن حىّ، حتى النّبات، الأمر الذي يجعل من الأصول قوة عاملة، ساهرة، على صيانة الفروع، وتثبيت أقدامها في الحياة، وذلك لحفظ النوع، الذي هو أقوى قوة عاملة في الكائن الحىّ.
والنهى عن قتل الأولاد، إنما هو لمحاربة آفة عارضة، أصابت بعض القبائل العربية في الجاهلية، فدفعت بهم إلى قتل أبنائهم، ووأد بناتهم.!
والذي يتأمل في هذه الظاهرة التي فشت في بعض القبائل العربية، يجد أنها إنما قامت أصلا على غريزة حبّ الآباء للأبناء، وحرصهم على كفالتهم، وضمان أمنهم وسلامتهم.. وذلك أن ما كان يلقاه الأعرابى من فقر، وما يقاسيه من بلاء وضرّ في سنى الجدب والمحن، هو شيء مفزع مخيف.. إذا نظر الأعرابى إليه وهو يتجه إلى بنيه، ويمدّ يده إليهم، ويبسط جناحه المشئوم عليهم، هاله ذلك وأفزعه، ورأى الموت لبنيه رحمة من هذا البلاء، وشفاء من هذا الداء.!
لهذا، كان التخلص من الأبناء، عند الولادة، هو المهرب الذي فرّ إليه بعض الأعراب بأبنائهم من وجه هذا المستقبل الكئيب الذي ينتزع أبناءهم من بين أيديهم- تحت وطأة الجوع، ويسلبهم الحياة نفسا نفسا، ويذيقهم الموت موتات، لا موتة واحدة! قد يكون هو الجهل، وسوء التدبير، وفساد العقيدة، ذلك الذي سوّل لبعض الأعراب أن يصنعوا بأبنائهم هذا الفعل الشنيع المنكر.. ولكن ليس هو جفاف العاطفة، ولا جفاء الطبع، ولا بلادة الحس، بل ربّما كان ذلك- كما قلنا- عن زيادة في خصب العاطفة، ورقة الطبع، ورفاهة الحسّ، حيال تلك الظاهرة- ظاهرة الميلاد- التي يرى فيها البدوىّ وجه الحياة مطلّا عليه، في صورة وليد أو وليدة له من بين هذا الموات العريض الذي يملأكل دنياه، وإذا هذه الحياة البازغة عنده، محملة بألوان الضرّ والبلاء، ملففة في أكفان الموت الرهيب! وفى الرثاء الذي نجده في مخلفات الشعر الجاهلىّ، ما يشهد لما في الطبيعة العربية الجاهلية من تعلق بالحياة والأحياء، وخاصة حياة الأبناء، وفلذات الأكباد.. ففى تلك المقطعات من الشعر، نشمّ ريح أكباد تحترق، ونجد مسّ أنفاس تلتهب، ونحس أنين زفرات لا تكاد تنقطع، وتساقط عبرات لا تكاد ترقأ.
فعلى الذين يتخذون من هذا الفعل الذي كان يفعله بعض الأعراب بأبنائهم- شاهدا على وحشيّة العرب، وفساد طبيعتهم، وانتكاس البشرية فيهم- عليهم أن يصححوا نظرتهم إليهم، وأن يردّوا هذه الظاهرة إلى أصلها الذي جاءت منه، وسيرون من هذا، أن قتل بعض الأعراب لأبنائهم، كان- حسب تقديرهم- حماية لهم من الموت البطيء، وفرارا بهم من ملاقاة تلك الحياة القاسية المهلكة.. ولأمر ما تأكل بعض الحيوانات أبناءها.
كما تفعل القطط مثلا، حين ترى أولادها في معرض الهلاك، من عدوّ يهجم عليها، وينتزعها منها.. إنها حينئذ لا تجد مكانا أمينا تغيبهن فيه عن عين عدوّها إلا بطنها الذي خرجن منه منذ قليل! أمّا وأد البنات، فهو فرع من هذا الأصل، وهو قتل الأبناء خشية الفقر.. وأنه إذا كان بعض الآباء يمسك البنين، ويئد البنات، فلأن البنات أقلّ احتمالا من الأبناء، ولأن في تعرضهن لهذه الحياة القاسية ما قد يمسّ شرفهن. ويلحق العار بهن وبآبائهن! ولهذا كان وأد البنات فاشيا أكثر من قتل الأبناء!
ولا نجد عاطفة للأبوة أرقّ وأحنى وأنبل من تلك العاطفة التي كان يحملها العربي للبنت وحسبنا أن نذكر قول أبى خالد المازني، وكان من الخوارج.
وقد لامه قطرىّ بن الفجاءة على أن يكون في القاعدين عن الحرب، فقال:
لقد زاد الحياة إلىّ حبّا ** بناتي إنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين الفقر بعدي ** وأن يشربن رنفا بعد صاف

وأن يعرين إن كسى الجواري ** فتنبو العين عن كوم عجاف

ولولا ذاك قد سوّمت مهري ** وفي الرحمن للضعفاء كاف

والأبيات في غنى عن الشرح والتعليق.. فهى كما ترى من توهج العاطفة، وصدق الشعور، وقد جاءت نغما رائعا يأخذ بمجامع القلوب، ويستولى على مواطن الحبّ والرحمة والحنان.
وفى الشعر العربىّ كثير من مثل هذه المواقف التي تكشف عن تلك العواطف الرقيقة التي كان يحملها العربىّ لبناته، صغيرات وكبيرات.
الفقر إذن، وما قد يقاسيه الأولاد من مسغبة قاتلة بيد الحرمان، هو الذي دفع ببعض العرب، إلى هذا الفعل المنكر، الذي كانوا يفعلونه، وأكبادهم تتمزق حسرة، وقلوبهم تتنزّى ألما، ولهذا جاء قوله تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} كاشفا عن العلّة التي من أجلها كان يقتل العربي ابنه، أو أبناءه، أو يئد بنته أو بناته.
وقد صحّح اللّه سبحانه وتعالى ما وقع في تفكيرهم من خطأ، أدّى بهم إلى هذا التفكير السقيم، وذلك السلوك المنحرف، فقال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.
فهؤلاء الأولاد قد خلقهم اللّه، كما خلق آباءهم من قبل، وقد تكفّل بأرزاقهم كما تكفّل بأرزاق آبائهم، حتى كبروا وصاروا آباء.. فلم يقطعون على أبنائهم طريق الحياة؟ ولم لا يدعونهم يعيشون كما عاشواهم؟ إنّهم لا يرزقونهم، ولكن الذي يرزقهم ويرزق آباءهم- هو الرزّاق ذو القوة المتين.. اللّه ربّ العالمين.
وفى تقديم رزق الأبناء على الآباء ما يشير إلى أنهم جميعا على سواء في الرزق عند اللّه، لا يملك هؤلاء، ولا هؤلاء رزقا لأنفسهم، وإنما يرزقون جميعا من فضل اللّه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً} تأثيم لهذا الفعل، وتجريم له، وتشنيع عليه، وأنه خطأ ارتكبه الآباء عن نيّة حسنة، ولكنه يحمل قدرا كبيرا من الشناعة والمنكر، فهو خطأ وخطء معا.. والخطء، هو الذنب، والخطيئة.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا}.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تضمنت فيما تضمنت نسبة الأبناء إلى الآباء.. وهذه النسبة لا تعرف إلا إذا كانت علاقة الرجل بالمرأة قائمة على أساس سليم، فلا يتصل الرجل بغير امرأته، ولا تتصل المرأة بغير زوجها..!
فاتصال الرجل بغير امرأته، والمرأة بغير زوجها، فيه عدوان على هذه الحرمة التي يجب أن تقوم بين الزوجين.. ثم فيه من جهة أخرى، اختلاط للأنساب، وضياع للحقوق التي تقوم على هذه الأنساب، فلا تكون هناك صلة جامعة بين آباء وأبناء.
والفاحشة، والفحش: المنكر، السيّء، القبيح. والوصف الملازم للزنا دائما، هو أنه فاحشة، حيث يطلّ منه هذا الوجه المنكر الكريه، الذي ينطق بالخيانة، والعدوان.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}.
بعد أن نهت الآية السابقة عن قتل الأولاد بيد الآباء، صيانة للنفس من حيث هي نفس، ورعاية لهذه الصلة الوثيقة، وتلك الرابطة القوية التي تربط بين الآباء والأبناء- جاءت هذه الآية ناهية عن قتل النفس- أىّ نفس- لتلك الاعتبارات التي تمسك يد الآباء عن قتل أبنائهم.. فالناس جميعا أبناء نفس واحدة، وإن تفرقوا شعوبا وقبائل، واختلفوا ألسنة وألوانا.. فكما تقوم بين الآباء والأبناء صلة الدم التي تحجزهم- أو من شأنها أن تحجزهم- عن قتلهم، كذلك تقوم صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من شأنها أن تكفّ يده عن قتله.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} قيد وارد على النهى المطلق، وهو أنه وإن كان للنفس الإنسانية هذه الحرمة التي تعصمها من القتل، فإن هناك بعض النفوس ترفع عنها هذه العصمة فتستحق القتل، وذلك حين يستخفّ صاحبها بنفس غيره، ويستبيح دمه.. هنا يكون القصاص، ويكون قتل القاتل، حقّا مشروعا.. فذلك هو العدل الذي إن لم يستقم ميزانه بين الناس على هذا الوجه، اضطرب أمنهم، وشاع الفساد فيهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ} وتقتل النفس كذلك، وقتلها حق، في حال الكفر بعد الإيمان، والزنا مع الإحصان. فالكفر بعد الإيمان عدوان على اللّه، وإهدار لآدمية النفس التي لبست الإيمان، ثم خلعت هذا اللباس وارتدت الكفر.. إنها كانت حيّة بالإيمان، فأماتها صاحبها بالكفر، فكان الحكم عليها بالموت تحقيقا لأمر هي فيه، فعلا.. وكذلك الزاني المحصن، قد اعتدى على حقّ غيره، وغرس في مغارسه، التي يستنبت منها حياة إنسانية مثل حياته.
وفى قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}.
الذي قتل مظلوما، هو الذي قتل عدوانا وبغيا من غير جريرة استحق عليها القتل، وهو أن يكون قاتلا لنفس بغير حق.
والولىّ، هو من يكون إليه أمر القصاص من القاتل، سواءا كان قريبا، أم سلطانا.. والسلطان، هو سلطان الحق، الذي في يد ولىّ المقتول على القاتل.
فهو بهذا الحق يقتل القاتل.
وليس لولىّ المقتول، أن يجاوز الحق الذي له على القاتل، فيقتل غير القاتل، أو يقتل مع القاتل غيره، كابن أو أخ.. كما أنه ليس له أن يمثّل بالقاتل.. وإنما هي ضربة بضربة..!
فهذا هو الإمام علىّ- كرم اللّه وجهه- حين طعنه ابن ملجم- لعنه اللّه- هذه الطعنة الغادرة، استدعى أبناءه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- رضى اللّه عنهم- وأوصاهم فيما أوصاهم به، فقال: إن عشت فأنا صاحب الحق، إن شئت أخذت بحقّى، وإن شئت عفوت، وإن متّ فضربة بضربة، ولا تمثّلوا.
فالتمثيل بالقاتل هو من الإسراف في القتل الذي تضمنه النهى في قوله تعالى. {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}.
هذا، السلطان، الحاكم، هو ولىّ دم كل قتيل يقتل ممن هم تحت سلطانه.. وله أن يتولىّ قتل القاتل، أو أن يسلّمه إلى يد أولياء القتيل، ليقتلوه هم بأيديهم، شفاء لما في أنفسهم من حزن على قتيلهم، ومن نقمة على قاتله.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا}.
تنهى هذه الآية عن حرمة من حرمات اللّه، وهى مال اليتيم، التي هي أشبه بحرمة النفس، التي حرّم اللّه قتلها، إلا بالحقّ.. فمال اليتيم، قد حرّم اللّه سبحانه وتعالى أن يقربه أحد إلا بالتي هي أحسن، أي بما فيه إحسان إلى اليتيم، وتنمية لماله، وتثمير له.. وبهذا يستحق القائم على هذا المال أن يأكل منه، في مقابل الجهد الذي بذل فيه.. {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [6: النساء].
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا} تنبيه إلى هذا الخطر، الذي يتهدّد من يقرب مال اليتيم، ويطوف بحماه، حيث نوازع النفس إليه، ودواعى الطمع فيه، إذ كان ولا قدرة لصاحبه على دفع يد من يريده بسوء.
وفى قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} هو إلفات إلى الأوصياء على اليتامى، وأن أموالهم هي أمانة في يد هؤلاء الأوصياء، فهذا عهد أخذه اللّه عليهم وألزمهم الوفاء به.. وإن العبث بهذا المال، أو التفريط فيه، أو العدوان عليه- هو نقض لهذا العهد، وخيانة لتلك الأمانة.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} تنويه بهذا العهد، وتشديد النكير على من يغدر به، إذ جاء النظم مصورا العهد، بتلك الصورة الحيّة العاقلة، التي ترى وتعقل ما كان من أصحابها من غدر أو وفاء.. فإن هي سئلت، أجابت، وكشفت عن حالها مع الغادرين أو الموفين! قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
القسطاس: الميزان، ويقول اللغويون والمفسرون، إن الكلمة فارسية معرّبة.
وقد استعمل بمعنى العدل، كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ} ونحن نرى أنها عربية صميمة، في بنائها، وفى ميزانها الصرفى.
وقد تصرّف القرآن الكريم في هذه الكلمة على جميع الوجوه، فجاء منها بالفعل.. فقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وبالمصدر في قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} وباسم الفاعل في قوله سبحانه: {وَمِنَّا الْقاسِطُونَ}.
وهكذا تصرّف القرآن بهذه الكلمة كما يتصرف في كل كلمة عربية متمكنة في عروبتها.
أما وزنها، فهو جار على وزن المصدر من الفعل الرباعي.. فقسطاس على وزن فعلال، من قسطس، مثل دحراج من دحرج، وزلزال من زلزل.
والتأويل: العاقبة، وهو ما يؤول إليه الأمر وما ينكشف مع الزمن منه.
والآية، تدعو إلى رعاية الحقوق، وقيامها على ميزان الحق والعدل، أخذا وعطاء.
والكيل والوزن، هما أكثر ما تقع الخيانة فيهما، ولهذا توعد اللّه سبحانه وتعالى الذين يعبثون بهما، ولا يرعون الأمانة فيهما، فقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد بعث اللّه نبيا كريما هو {شعيب} كانت رسالته قائمة على رعاية الكيل والميزان.
قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}.
اختلف النظم في هاتين الآيتين عنه في الآيات السابقة، حيث جاء الخطاب فيهما بلفظ المفرد، على حين كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى الجمع.
والسرّ في هذا، هو أن المنهي عنه في الآيات السابقة كان عن أمور لا تحقّق إلّا بأكثر من شخص، كقتل الأبناء، الذي هو في أضيق صوره لا يتم إلا بين أب وابنه، وكقتل النفس، الذي لا يكون إلا بين قاتل ومقتول.. ومال اليتيم، الذي هو بين اليتيم والوصىّ عليه.. والزنا، الذي بين رجل وامرأة، وكذلك الكيل والميزان، ونحوهما.. إنها عمليات لا تتم إلا بين آخذ ومعط.
أما ما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
فهو شأن من شئون الإنسان وحده، لا يكاد يطّلع عليه أحد سواه.
ومعنى قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ} أي لا تتّبع.. وأصله من القفو والقفا، وهو أن يتبع الإنسان خطو غيره، ويسير وراءه، أي يجيء من قفاه.. ومنه القافية في الشّعر، لأنّها آخر البيت.
وفى الآية الكريمة دعوة آمرة، إلى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتوجيه ملكاته إلى هذا الوجود، فلا يقول إلا عن علم، ولا ينطق إلا بما يمليه عليه عقله، ويوحى إليه به إدراكه.
فالآية الكريمة تنهى عن أن يكون الإنسان إمّعة، يتبع كل ناعق، ويجرى وراء كل داع، دون أن يكون له رأى فيما يعمل ويقول.. وهذا معناه تعطيل لمدركاته، وعدوان على إنسانيته بحرمانها من حقّها في التزوّد بزاد العلم والمعرفة.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} إشارة إلى ما للسمع، والبصر، والفؤاد من قوة قادرة على اصطياد المعرفة، وتحصيل العلم.. إنها أجهزة قادرة على أن تمكّن للإنسان من أن يتهدّى إلى مواقع الخير، وأن يصل إلى مواطن اليقين من كل أمر يعرض له، إذا هو أحسن استعمال هذه الأجهزة، وأصغى لندائها.. إنها أجهزة عاقلة رشيدة، في كيان الإنسان العاقل الرشيد، ولهذا جاءت الإشارة إليها بلفظ العقلاء:
{أولئك}.
والفؤاد: هو القلب، وما يتصل به من قوى الإدراك والشعور.
وفى قوله تعالى: {كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} إشارة إلى أن الإنسان سيسأل عن تلك الجوارح وهذه القوى التي أمدّه اللّه بها، ليتعرف بها إلى الحق والخير، فإن هو عطلها أو وجهها إلى وجوه الشر والفساد، كان مسئولا عنها، محاسبا على تفريطه أو إفراطه فيها.
قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}.
هو دعوة إلى الإنسان في ذات نفسه إلى أن يعرف قدره، ولا يجاوز حدوده.
فإذا كان في الناس من يزرى بقدر نفسه، فلا يرى لها حقّا في أن تأخذ مكانها في الحياة، وموقفها مع الناس، ويرضى لنفسه أن يقاد فينقاد، دون أن يفكر أو يقدر.. فإن في الناس من يذهب به الغرور بنفسه إلى حدّ يجعله يقيم لنفسه مقاما من مدّعيات وأباطيل، يطاول به السماء، ويتعالى به على العالمين.
وكلا الرجلين مذموم، مجانب لطريق الحق والهدى.
والمحمود من الإنسان هو أن يأخذ طريقا وسطا.. فيستعمل قواه وملكاته بحكمة، واعتدال، ثم إذا بدا له أنه ممن آتاهم اللّه بصيرة نافذة، وعقلا راجحا، فلا يكن ذلك داعية له إلى التعالي على الناس، وإلى النظر إليهم معجبا بنفسه، مزهوّا بعلمه.. فإنه مهما بلغ من قوة وعلم، فإنه إنسان، وفى حدود البشرية ينبغى أن يعيش.. وإنه مهما بلغ من قوة، فلن يخرق الأرض بقدميه الواهيتين، إذ يضرب بهما وهو يسير في الأرض مرحا.. وإنه مهما شمخ بأنفه، ونفخ في أوداجه فلن يطاول الجبال.. فلم إذن هذا الضّرب على الأرض بالقدمين؟ ولم هذا التشامخ بالأنف والتطاول بالعنق؟ إن ذلك عناء لا جدوى منه، ولا طائل تحته! قوله تعالى: {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}.
لفظ الإشارة {ذلك} مشار به إلى كل ما تقدم من منهيّات وأوامر.
وأن هذا الذي وقع النهى عليه هو السيّء، المكروه عند اللّه، يجب اجتنابه وحراسة الإنسان نفسه من أن يلمّ به.
قوله تعالى: {ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}.
الإشارة {ذلك} إلى ما تحدثت به الآيات السابقة من منهيات ومأمورات، وهى من الحكمة التي أوحى اللّه سبحانه وتعالى بها إلى النبيّ.. وفى الخروج عليها مهلكة وضياع.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} إظهار مزيد من العناية بهذا الذي أوحى به اللّه سبحانه وتعالى من الحكمة، وهو النهى عن الشرك باللّه، إذ كان الشرك باللّه- عصمنا اللّه منه- هو كبيرة الكبائر، لا يصلح لإنسان مع الشرك عمل أبدا.. وليس للمشرك مصير إلا النار.
وفى توجيه الخطاب إلى النبي الكريم، تشنيع على الشرك، وتهويل لخطره، وأنه مطلوب من النبيّ- وهو من هو عند اللّه- أن يحرس نفسه منه.
ويتوقّى المواطن التي يجيء منها.
فإذا كان هذا شأن النبيّ، وهو المصطفى من بين عباد اللّه، والمحفوف بألطاف اللّه ورحمته.. فكيف شأن الناس، وهم في مواجهة هذا الداء الخطير؟ إنّهم في حاجة إلى مراقبة شديدة، وإلى حراسة دائمة، من أن يندسّ إليهم هذا الداء، في سرّ أو علن.. فما أكثر المسارب الخفيّة التي ينفذ بها الشرك إلى الناس.